فصل: تفسير الآيات (6- 11):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال مجد الدين الفيروزابادي:
بصيرة في ودع:
المادّة تدلُّ على التَّرْك والتَخْلِيَة.
وَدُعَ الرجلُ فهو وَدِيعٌ ووادِعٌ، أَى ساكنٌ، مثلُ حَمُضَ فهو حامِضٌ، يُقال: نالَ المكارِمَ وادعاً، أَى من غير كُلْفَةِ ومَشَقَّة.
وعليك بالمَوْدُوع أَى بالسَّكينة والوَقار.
ووَدَّعْتُ فلاناً تَوْدِيعاً من وَداع السَّلام.
والدَّعَةُ: الخَفْضُ والرّاحةُ، والهاءُ عِوَضٌ من الواو، وقال:
لا يَمْعَنَّك خَفْضَ العَيْشِ في دَعَةٍ ** نُزُوعُ نَفْسٍ إِلى أَهْلٍ وأَوْطانِ

تَلْقَى بكُلِّ بِلادٍ إِنْ حَلَلْتَ بها ** أَهْلاً بأَهْلٍ وجِيراناً بجيرانِ

والوَداعُ: اسمٌ من التَّوْدِيع، قال القَطامىّ:
قِفِى قَبْلَ التَفَرُّق يا ضُباعَا ** ولا يَكُ مَوْقِفٌ مِنكِ الوَداعَا

أَراد ولا يَكُنْ مِنكِ مَوْقِف الوَداعِ، ولكن لِيَكُنْ مَوْقِف غِبْطَةٍ وإِقامة، لأَنَّ موقفَ الوَدع يكون للفِراق، ويكون مُنَغَّصاً بما يَتْلُوه من التَبارِيحِ والشَّوْق.
وقولهم: دَعْ ذَا، أَى اتْرُكْه، وأَصلهُ وَدَعَ يَدَعُ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «دَعْ ما يَريبك».
قال عَمْرُو بن مَعْدِيكرب:
إِذا لم تَسْتَطِعُ أَمراً فدَعْهُ ** وجاوِزْهُ إِلى ما تَسْتَطيعُ

قال اللغويون: أُمِيتَ ماضِيهِ، لا يُقال: وَدَعَهُ إِنَّما يُقال تَركَه ولا واجِعٌ ولكن تَارِكٌ.
قالوا: ورُبَّما جاءَ في ضرورة الشِّعر وَدَعَه وهو مَوْدُوع على أَصْلِه، قال أَنَسُ بن زُنَيْم:
لَيْتَ شِعْرِى عن خَلِيلِى ما الذي ** غالَهُ في الوَعْدِ حَتَّى وَدَعَه

وقال سُوَيْدُ بن أَبى كاهِل اليَشْكُرِىّ يصفُ نَفْسه:
وَرِثَ البِغْضَة عن آبائه ** حافِظُ العَقْلِ لِما كان اسْتَمَعْ

فَسَعَى مَسْعاتَهُم في قَوْمهِ ** ثمّ لم يَظْفَرْ ولا عَجْزاً وَدَعْ

وقال آخر:
وكانَ ما قَدَّمُوا لأَنْفُسِهم ** أَكْثر نَفْعاً من الذي وَدَعُوا

وقد اختارَ النبي صلى الله عليه وسلم أَصلَ هذه اللغة فيما رَوَى عنه ابنُ عبّاسٍ رضى الله عنهما أَنَّه قرأ: {ما وَدَّعَك رَبُّكَ وما قلى} بتخفيف الدَّال، وكذلك قرأ بهذه القراءة عُرْوة ومُقاتل وأَبو حَيْوَةَ، وأَبو البَرَهْسَم وابنُ أَبِى عَيْلَةَ ويَزِيدُ النَّحْوَىّ.
وقال صلى الله عليه وسلم: «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقوامٌ عن وَدْعِهِم الجُمُعات أَوْ لَيَخْتِمَنَّ الله على قُلُوبهم ثمّ لَيكُونُنَّ من الغافِلين».
وقرأ الباقون {ما وَدَّعك} بالتشديد، أَى ما تَرَكك من اخْتارَك، ولا أَبْغَضَك منذ أَحَبَّك.
وفى الحديث: «إِذا لم يُنْكِرِ الناسُ المُنْكَرَ فقد تُوُدِّع منهم» أَى أُسْلِمُوا إِلى ما استحقُّوه من المنكر عليهم، وتُرِكُوا وما استَحبُّوه، من المَعاصى حتى يُكْثِرُوا منها فيَستوجِبُوا العقوبةَ.
وفى الحديث: «دَعْ داعِىَ اللَّبَن» أَى اتركْ منه في الضَرْع شيئا يَسْتَنْزِلُ اللَّبَنَ.
ووادَعَ بَنِى فُلان: صالَحَهُم.
والتَّوْديع عند الرّحيل معروفٌ، وهو تخليف المسافِرِ الناسَ خافِضين وادِعين، وهم يُوَدِّعُونَه إِذا سافَر تَفاؤلاً بالدَّعَة التي يصير إِليها إِذا قَفَل، أَى يتركونه وَسَفَره، قال الأَعشى:
ودِّعْ هُرَيْرَة إِنَ الرَكْبَ مُرْتَحِلْ ** وهَلْ يُطِيقُ وَداعاً أَيّها الرّجُلُ

واستَوْدَعْتُه وَديعَةً: استْحْفَظْتُه إِيّاها قال:
اسْتُودِع العلْمَ قرطَاسٌ فضَيَّعَه ** فِبئْسَ مستودَعُ العِلْم القرأطيسُ

وقوله تعالى: {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} أَى مستودَعٌ في الصلب في وقيل في الثَّرَى.
والمُسْتَوْدَعُ في قول عبّاس بن عبد المطَّلب رضى الله عنه:
مِنْ قَبْلِها طِيبَ في الظِّلال وفىِ ** مُسْتَوْدَعٍ حَيْثُ يُخْصَفُ الوَرَقُ

المكانُ الذي جُعِلَ فيه آدم وحَوّاءُ عليهما السلام من الجنَّة واستُودعاهُ، وقيل: الرَّحمُ. اهـ.

.تفسير الآيات (6- 11):

قوله تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فآوى (6) وَوَجَدَكَ ضالا فهدى (7) وَوَجَدَكَ عائلا فأغنى (8) فَأَمَّا اليتيم فَلَا تقهر (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تنهر (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فحدث (11)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما وعده بأنه لا يزال في كل لحظة يرقيه في مراقي العلا والشرف، ذكره بما رقاه به قبل ذلك من حين توفي أبوه وهو حمل وماتت أمه وهو ابن ثمان سنين، فتم يتمه من الأبوين قبل بلوغه لئلا يكون عليه- كما قال جعفر الصادق- حق لمخلوق، فقال مقرراً له: {ألم يجدك} أي يصادفك أي يفعل بك فعل من صادف آخر حال كونه {يتيماً فآوى} ولما كان يلزم من اليتم في الغالب عدم العلم لليتيم لتهاون الكافل، ومن عدم العلم الضلال، قال مبيناً أن يتمه وإهماله من الحمل على دينهم كان نعمة عظيمة عليه لأنه لم يكن على دين قومه في حين من الأحيان أصلاً: {ووجدك} أي صادفك {ضالا} أي لا تعلم الشرائع {ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان} [الشورى: 52] فأطلق اللازم وهو الضلال على الملزوم، والمسبب على السبب، وهو عدم العلم، فكنت لأجل ذلك لا تقدم على فعل من الأفعال لأنك لا تعلم الحكم فيه إلا ما علمت بالعقل الصحيح والفطرة السليمة المستقيمة من التوحيد وبعض توابعه، وهذا هو التقوى كما تقدم في الفاتحة، ولم يرد به حقيقته وإنما أعراه من التعلق بشيء من الشرائع ونحوها بإعدام من يحمله على ذلك ليفرغه ذلك التأمل بنفسه فيوصله بعقله السديد إلى الاعتقاد الحق في الأصول والوقوف في الفروع {فهدى} أي فهداك هدى محيطاً بكل علم، فعلمك بالوحي والإلهام والتوفيق للنظر ما لم تكن تعلم.
ولما كان العيال يمنعون من التفرغ لعلم أو غيره قال: {ووجدك} أي حال كونك {عائلا} أي ذا عيال لا تقدر على التوسعة عليهم أو فقيراً، قال ابن القطاع: عال الرجل: افتقر، وأعال: كثر عياله.
{فأغنى} بما جعل لك من ربح التجارة ثم من كسب الغنائم وقد أفهم ذلك أن الناس أربعة أقسام: منهم من وجد الدين والدنيا، ومنهم من عدمهما، ومنهم من وجد الدين لا وجد الدنيا، ومنهم من وجد الدنيا لا الدين.
ولما ذكره بما أنعم عليه به من هذه النعم الثلاث أوصاه بما يفعل في ثلاث مقابلة لها، فقال مسبباً عنه مقدماً معمول ما بعد الفاء عليها اهتماماً: {فأما اليتيم} أي هذا النوع {فلا تقهر} أي تغلبه على شيء فإنما أذقتك اليتم تأديباً بأحسن الآداب لتعرف ضعف اليتيم وذله، وفوق ذلك كفالته وهي خلافة عن الله لأن اليتيم لا كافل له إلا الله، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا وكافل اليتيم كهاتين»- وأشار بالسبابة والوسطى.
ولما بدأ بما كان بداية له، ثنى بما هو نهاية له من حيث كونه يصير رأس الخلق فيصير محط الرجال في كل سؤال من علم ومال، فقال مقدماً له اهتماماً به إشارة إلى أنه جبر الخواطر واستئلاف الخلق من أعظم المقاصد في تمام الدين: {وأما السائل} أي الذي أحوجته العيلة أو غيرها إلى السؤال {فلا تنهر} أي تزجر زجراً مهيناً، فقد علمت مضاضة العيلة، بل أعطه ولو قليلاً، أو رده رداً جميلاً، وكذا السائل في العلم.
ولما ذكر له تفصيل ما يفعل في اليتيم والفقير والجاهل، أمره بما يفعل في العلم الذي آتاه إياه إعلاماً بأنه الآلة التي يستعملها في الأمرين الماضيين وغيرهما لأنها أشرف أحوال الإنسان وهي أوفق الأمور لأن يكون مقطع السورة لتوافق مطلعها فقال: {وأما بنعمة ربك} أي الذي أحسن إليك بإصلاح جميع ما يهمك من العلم وغيره وبالهجرة ومبادئها عند تمام عدد آيها من السين وهي إحدى عشرة {فحدث} أي فاذكر النبوة وبلغ الرسالة فاذكر جميع نعمه عليك فإنها نعم على الخلق كافة، ومنها إنقاذك بالهجرة من أيدي الكفرة وإعزازك بالأنصار، وتحديثك بها شكرها، فإنك مرشد يحتاج الناس إلى الاقتداء بك، ويجب عليهم أن يعرفوا لك ذلك ويتعرفوا مقدارك ليؤدوا حقك، فحدثهم أني ما ودعتك ولا قليتك، ومن قال ذلك فقد خاب وافترى، واشرح لهم تفاصيل ذلك بما وهبتك من العلم الذي هو أضوأ من ضياء الضحى وقد رجع آخرها على أولها بالتحديث بهذا القسم والمقسم لأجله، وما للملك الأعلى في ذلك من عميم فضله: ولقد امتثل- صلى الله عليه وسلم وابتدأ هذا التحديث الذي يشرح الصدور، ويملأ الأكوان من السرور، والنعمة والحبور، لأنه بأكبر النعم المزيلة لكل النقم بالتكبير كما ورد في قراءة ابن كثير وفي رواية السوسي عن أبي عمرو، واختلف القراء في ابتدائه وانتهائه ولفظه، فقال بعضهم: هو من أول الضحى، وقال آخرون: من آخرها، وقال غيرهم من أول الشرح، فمن قال للأول لم يكبر آخر الناس، ومن قال للآخر انتهى تكبيره بالتكبير في آخرها، وسببه أن جبريل عليه الصلاة والسلام لما أتى النبي- صلى الله عليه وسلم بعد فترة الوحي، فتلا السورة عليه كبر مسروراً لما كان أحزنه من الفترة ومن قول المشركين: قلاه ربه، وتحديثاً بالنعم التي حباه الله بها في هذه السورة له ولأمته امتثالاً لما أمر به واختلف عنهم في لفظه، فمنهم من اقتصر على «الله أكبر» ومنهم من زاد التهليل فقال: «لا إله إلا الله والله أكبر» وهذا هو المستعمل، ومنهم من زاد «ولله الحمد» والراجح قول من قال: إنه لآخر الضحى إسناداً ومعنى، لأنها وإن كانت هي السبب والعادة جارية بأن من دهمه أمر عظيم يكبر مع أوله، لكن شغله- صلى الله عليه وسلم بالإصغاء إلى ما يوحى إليه منعه من ذلك، فلما ختمت السورة تفرغ له، فكان ذلك الوقت كأنه ابتداء مفاجأة ذلك الأمر العظيم له، وزاد ما في السورة من جلائل النعم المقتضية للتحميد وما في ذلك من بدائع الصنع الموجب للتهليل، وقد علم بذلك سبب من ظنه في أولها، وأما من ظنه لأول الشرح فكونه كان في آخر الضحى، فإذا وصل بها {ألم نشرح} ألبس الحال، وتعليق الأشياء بالأوائل هو الأمر المعتاد، وحكمته مع ما مضى من سببه أن التهليل توحيده سبحانه وتعالى بالأمر، وامتناع شريك يمنعه من شيء يريده من الوحي وغيره، والتكبير تفريده له بالكبرياء تنزيهاً له عن شوب نقص يلم به من أن يتجدد له علم ما لم يكن ليكون ذلك سبباً لقطع من وصله بوحي أو غيره، والتحميد إثبات التفرد بالكمال له على إسباغ نعمه، وفي ذلك أن هذه السورة آذنت بأن القرآن أشرف على الختام، لأن عادة الحكماء من المدبرين تخفيف المنازل في الأواخر على السائرين كتخفيف أول مرحلة رفقاً بالمقصرين، فناسب الذكر بهذا عند الآخر لأن تذكر الانقضاء يهيج مثل ذلك عند السالك، ولأن تقصير السور ربما أوهم شيئاً مما لا يليق، فسن التنزيه بتكبيره سبحانه وتعالى عن كل ما يوهم نقصاً، وإثبات الكمال له بالتوحيد منبه على الحث على تدبر ما في هذه السورة من الجمع للمعاني على وجازتها وقصر آياتها وحلاوتها مع ما في ذلك من تخفيف التعليم، والتدريب على الحفظ في المبادئ والتحبيب فيه والتهييم، والتحميد على إتمام النعمة على غاية الإحكام من لدن حكيم عليم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فآوى (6)} فيه مسائل:
المسألة الأولى:
أن اتصاله بما تقدم هو أنه تعالى يقول: {ألم يجدك يتيماً} فقال الرسول: بلى يا رب، فيقول: انظر أكانت طاعاتك في ذلك الوقت أكرم أم الساعة؟ فلابد من أن يقال: بل الساعة فيقول الله: حين كنت صبياً ضعيفاً ما تركناك بل ربيناك ورقيناك إلى حيث صرت مشرفاً على شرفات العرش وقلنا لك: لولاك ما خلقنا الأفلاك، أتظن أنا بعد هذه الحالة نهجرك ونتركك.
المسألة الثانية:
ألم يجدك من الوجود الذي بمعنى العلم، والمنصوبان مفعولا وجد والوجود من الله، والمعنى ألم يعلمك الله يتيماً فآوى، وذكروا في تفسير اليتيم أمرين:
الأول: أن عبد الله بن عبد المطلب فيما ذكره أهل الأخبار توفي وأم رسول الله صلى الله عليه وسلم حامل به، ثم ولد رسول الله فكان مع جده عبد المطلب ومع أمه آمنة، فهلكت أمه آمنة وهو ابن ست سنين فكان مع جده، ثم هلك جده بعد أمه بسنتين ورسول الله ابن ثمان سنين.
وكان عبد المطلب يوصي أبا طالب به لأن عبد الله وأبا طالب كانا من أم واحدة، فكان أبو طالب هو الذي يكفل رسول الله بعد جده إلى أن بعثه الله للنبوة، فقام بنصرته مدة مديدة، ثم توفي أبو طالب بعد ذلك فلم يظهر على رسول الله يتم ألبتة فأذكره الله تعالى هذه النعمة.
روى أنه قال أبو طالب يوماً لأخيه العباس: ألا أخبرك عن محمد بما رأيت منه؟ فقال: بلى فقال: إني ضممته إلى فكنت لا أفارقه ساعة من ليل ولا نهار؛ ولا أأتمن عليه أحداً حتى أني كنت أنومه في فراشي، فأمرته ليلة أن يخلع ثيابه وينام معي، فرأيت الكراهة في وجهه لكنه كره أن يخالفني، وقال: يا عماه اصرف بوجهك عني حتى أخلع ثيابي إذ لا ينبغي لأحد أن ينظر إلى جسدي، فتعجبت من قوله وصرفت بصري حتى دخل الفراش فلما دخلت معه الفراش إذا بيني وبينه ثوب والله ما أدخلته فراشي فإذا هو في غاية اللين وطيب الرائحة كأنه غمس في المسك، فجهدت لأنظر إلى جسده فما كنت أرى شيئاً وكثيراً ما كنت أفتقده من فراشي فإذا قمت لأطلبه ناداني ها أنا يا عم فارجع، ولقد كنت كثيراً ما أسمع منه كلاماً يعجبني وذلك عند مضي الليل وكنا لا نسمي على الطعام والشراب ولا نحمده بعده، وكان يقول في أول الطعام: بسم الله الأحد.
فإذا فرغ من طعامه قال: الحمد لله، فتعجبت منه، ثم لم أر منه كذبة ولا ضحكاً ولا جاهلية ولا وقف مع صبيان يلعبون.
واعلم أن العجائب المروية في حقه من حديث بحيرى الراهب وغيره مشهورة.
التفسير الثاني لليتيم: أنه من قولهم درة يتيمة، والمعنى ألم يجدك واحدًا في قريش عديم النظير فآواك؟ أي جعل لك من تأوي إليه وهو أبو طالب، وقرئ {فآوى} وهو على معنيين: إما من أواه بمعنى آواه، وإما من أوى له إذا رحمه.
وههنا سؤالان:
السؤال الأول:
كيف يحسن من الجود أن يمن بنعمة، فيقول: {أَلَمْ يَجِدْكَ يتيماً فآوى}؟ والذي يؤكد هذا السؤال أن الله تعالى حكى عن فرعون أنه قال: {أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيداً} [الشعراء: 18] في معرض الذم لفرعون، فما كان مذموماً من فرعون كيف يحسن من الله؟
الجواب: أن ذلك يحسن إذا قصد بذلك أن يقوي قلبه ويعده بدوام النعمة، وبهذا يظهر الفرق بين هذا الامتنان وبين امتنان فرعون، لأن امتنان فرعون محبط، لأن الغرض فما بالك لا تخدمني، وامتنان الله بزيادة نعمه، كأنه يقول: مالك تقطع عني رجاءك ألست شرعت في تربيتك، أتظنني تاركاً لما صنعت، بل لابد وأن أتمم عليك وعلى أمتك النعمة، كما قال: {وَلأُتِمَّ نِعْمَتِى} [البقرة: 150] أما علمت أن الحامل التي تسقط الولد قبل التمام معيبة ترد، ولو أسقطت أو الرجل أسقط عنها بعلاج تجب الغرة وتستحق الذم، فكيف يحسن ذلك من الحي القيوم، فما أعظم الفرق بين مان هو الله، وبين مان هو فرعون، ونظيره ما قاله بعضهم: {ثلاثة رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22] في تلك الأمة، وفي أمة محمد: {مَا يَكُونُ مِن نجوى ثلاثة إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] فشتان بين أمة رابعهم كلبهم، وبين أمة رابعهم ربهم.
السؤال الثاني:
أنه تعالى منّ عليه بثلاثة أشياء، ثم أمره بأن يذكر نعمة ربه، فما وجه المناسبة بين هذه الأشياء؟
الجواب: وجه المناسبة أن نقول: قضاء الدين واجب، ثم الدين نوعان مالي وإنعامي.
والثاني: أقوى وجوباً، لأن المالي قد يسقط بالإبراء.
والثاني: يتأكد بالإبراء، والمالي يقضي مرة فينجو الإنسان منه.
والثاني: يجب عليك قضاؤه طول عمرك، ثم إذا تعذر قضاء النعمة القليلة من منعم هو مملوك، فكيف حال النعمة العظيمة من المنعم العظيم، فكأن العبد يقول: إلهي أخرجتني من العدم إلى الوجود بشراً سوياً، طاهر الظاهر نجس الباطن، بشارة منك أن تستر على ذنوبي بستر عفوك، كما سترت نجاستي بالجلد الظاهر، فكيف يمكنني قضاء نعمتك التي لا حد لها ولا حصر؟ فيقول تعالى الطريق إلى ذلك أن تفعل في حق عبيدي ما فعلته في حقك، كنت يتيماً فآويتك فافعل في حق الأيتام ذلك، وكنت ضالا فهديتك فافعل في حق عبيدي ذلك، وكنت عائلا فأغنيتك فافعل في حق عبيدي ذلك ثم إن فعلت كل ذلك فاعلم أنك إنما فعلتها بتوفيقي لك ولطفي وإرشادي، فكن أبداً ذاكراً لهذه النعم والألطاف.
{وَوَجَدَكَ ضالا فهدى (7)}.
فاعلم أن بعض الناس ذهب إلى أنه كان كافراً في أول الأمر، ثم هداه الله وجعله نبياً، قال الكلبي: {وجدك ضالا} يعني كافراً في قوم ضلال فهداك للتوحيد، وقال السدي: كان على دين قومه أربعين سنة، وقال مجاهد: وجدك ضالا عن الهدى لدينه واحتجوا على ذلك بآيات أخر منها قوله: {مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الكتاب وَلاَ الإيمان} [الشورى: 52] وقوله: {وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين} [يوسف: 3] وقوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] فهذا يقتضي صحة ذلك منه، وإذا دلت هذه الآية على الصحة وجب حمل قوله: {وَوَجَدَكَ ضالا} عليه، وأما الجمهور من العلماء فقد اتفقوا على أنه عليه السلام ما كفر بالله لحظة واحدة، ثم قالت المعتزلة: هذا غير جائز عقلاً لما فيه من التنفير، وعند أصحابنا هذا غير ممتنع عقلاً لأنه جائز في العقول أن يكون الشخص كافراً فيرزقه الله الإيمان ويكرمه بالنبوة، إلا أن الدليل السمعي قام على أن هذا الجائز لم يقع وهو قوله تعالى: {مَا ضَلَّ صاحبكم وَمَا غوى} [النجم: 2].
ثم ذكروا في تفسير هذه الآية وجوهاً كثيرة:
أحدها: ما روي عن ابن عباس والحسن والضحاك وشهر بن حوشب: ووجدك ضالا عن معالم النعمة وأحكام الشريعة غافلاً عنها فهداك إليها، وهو المراد من قوله: {مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الكتاب وَلاَ الإيمان} [الشورى: 52] وقوله: {وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين} [يوسف: 3].
وثانيها: ضل عن مرضعته حليمة حين أرادت أن ترده إلى جده حتى دخلت إلى هبل وشكت ذلك إليه فتساقطت الأصنام، وسمعت صوتاً يقول: إنما هلاكنا بيد هذا الصبي، وفيه حكاية طويلة.
وثالثها: ما روي مرفوعاً أنه عليه الصلاة والسلام قال: «ضللت عن جدي عبد المطلب وأنا صبي ضائع، كاد الجوع يقتلني، فهداني الله» ذكره الضحاك، وذكر تعلقه بأستار الكعبة، وقوله:
يا رب رد ولدي محمدا ** اردده ربي واصطنع عندي يداً

فما زال يردد هذا عند البيت حتى أتاه أبو جهل على ناقة وبين يديه محمد وهو يقول: لا ندري ماذا نرى من ابنك، فقال عبد المطلب ولم؟ قال: إني أنخت الناقة وأركبته من خلفي فأبت الناقة أن تقوم، فلما أركبته أمامي قامت الناقة، كأن الناقة تقول: يا أحمق هو الإمام فكيف يقوم خلف المقتدى! وقال ابن عباس: رده الله إلى جده بيد عدوه كما فعل بموسى حين حفظه على يد عدوه ورابعها: أنه عليه السلام لما خرج مع غلام خديجة ميسرة أخذ كافر بزمام بعيره حتى ضل، فأنزل الله تعالى جبريل عليه السلام في صورة آدمي، فهداه إلى القافلة، وقيل: إن أبا طالب خرج به إلى الشأم فضل عن الطريق فهداه الله تعالى وخامسها: يقال: ضل الماء في الليل إذا صار مغموراً، فمعنى الآية كنت مغموراً بين الكفار بمكة فقواك الله تعالى حتى أظهرت دينه وسادسها: العرب تسمي الشجرة الفريدة في الفلاة ضالة، كأنه تعالى يقول: كانت تلك البلاد كالمفازة ليس فيها شجرة تحمل ثمر الإيمان بالله ومعرفته إلا أنت، فأنت، شجرة فريدة في مفازة الجهل فوجدتك ضالا فهديت بك الخلق، ونظيره قوله عليه السلام: «الحكمة ضالة المؤمن» وسابعها: ووجدك ضالا عن معرفة الله تعالى حين كنت طفلاً صبياً، كما قال: {والله أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أمهاتكم لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78] فخلق فيك العقل والهداية والمعرفة، والمراد من الضال الخالي عن العلم لا الموصوف بالاعتقاد الخطأ وثامنها: كنت ضالا عن النبوة ما كنت تطمع في ذلك ولا خطر شيء من ذلك في قلبك، فإن اليهود والنصارى كانوا يزعمون أن النبوة في بني إسرائيل فهديتك إلى النبوة التي ما كنت تطمع فيها ألبتة وتاسعها: أنه قد يخاطب السيد، ويكون المراد قومه فقوله: {وَوَجَدَكَ ضالا} أي وجد قومك ضلالاً، فهداهم بك وبشرعك وعاشرها: وجدك ضالا عن الضالين منفرداً عنهم مجانباً لدينهم، فكلما كان بعدك عنهم أشد كان ضلالهم أشد، فهداك إلى أن اختلطت بهم ودعوتهم إلى الدين المبين الحادي عشر: وجدك ضالا عن الهجرة، متحيراً في يد قريش متمنياً فراقهم وكان لا يمكنك الخروج بدون إذنه تعالى، فلما أذن له ووافقه الصديق عليه وهداه إلى خيمة أم معبد، وكان ما كان من حديث سراقه، وظهور القوة في الدين كان ذلك المراد بقوله: {فهدى}، الثاني عشر: ضالا عن القبلة، فإنه كان يتمنى أن تجعل الكعبة قبلة له وما كان يعرف أن ذلك هل يحصل له أم لا، فهداه الله بقوله: {فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة: 144] فكأنه سمى ذلك التحير بالضلال الثالث عشر: أنه حين ظهرها له جبريل عليه السلام في أول أمره ما كان يعرف أهو جبريل أم لا، وكان يخافه خوفاً شديداً، وربما أراد أن يلقي نفسه من الجبل فهداه الله حتى عرف أنه جبريل عليه السلام الرابع عشر: الضلال بمعنى المحبة كما في قوله: {إِنَّكَ لَفِى ضلالك القديم} [يوسف: 95] أي محبتك، ومعناه أنك محب فهديتك إلى الشرائع التي بها تتقرب إلى خدمة محبوبك الخامس عشر: ضالا عن أمور الدنيا لا تعرف التجارة ونحوها،
ثم هديتك حتى ربحت تجارتك، وعظم ربحت حتى رغبت خديجة فيك، والمعنى أنه ما كان لك وقوف على الدنيا، وما كنت تعرف سوى الدين، فهديتك إلى مصالح الدنيا بعد ذلك السادس عشر: {وَوَجَدَكَ ضالا} أي ضائعاً في قومك؛ كانوا يؤذونك، ولا يرضون بك رعية، فقوي أمرك وهداك إلى أن صرت آمراً والياً عليهم السابع عشر: كنت ضالا ما كنت تهتدي على طريق السموات فهديتك إذ عرجت بك إلى السموات ليلة المعراج الثامن عشر: ووجدك ضالا أي ناسياً لقوله تعالى: {أَن تَضِلَّ أحداهُمَا} [البقرة: 282] فهديتك أي ذكرتك، وذلك أنه ليلة المعراج نسي ما يجب أن يقال بسبب الهيبة، فهداه الله تعالى إلى كيفية الثناء حتى قال: «لا أحصي ثناء عليك» التاسع عشر: أنه وإن كان عارفاً بالله بقلبه إلا أنه كان في الظاهر لا يظهر لهم خلافاً، فعبر عن ذلك بالضلال العشرون: روى على عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون به غير مرتين، كل ذلك يحول الله بيني وبين ما أريد من ذلك، ثم ما هممت بعدهما بسوء حتى أكرمني الله برسالته، فإني قلت ليلة لغلام من قريش، كان يرعى معي بأعلى مكة، لو حفظت لي غنمي حتى أدخل مكة، فأسمر بها كما يسمر الشبان، فخرجت أريد ذلك حتى أتيت أول دار من دور مكة، فسمعت عزفاً بالدفوف والمزامير، فقالوا فلان ابن فلان يزوج بفلانة، فجلست أنظر إليهم وضرب الله على أذني فنمت فما أيقظني إلا مس الشمس، قال فجئت صاحبي، فقال ما فعلت؟ فقلت ما صنعت شيئاً، ثم أخبرته الخبر، قال: ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك، فضرب الله على أذني فما أيقظني إلا مس الشمس، ثم ما هممت بعدهما بسوء حتى أكرمني الله تعالى برسالته».
{وَوَجَدَكَ عائلا فأغنى (8)} ففيه مسائل:
المسألة الأولى:
العائل هو ذو العيلة، وذكرنا ذلك عند قوله: {أَن لا تَعُولُواْ} [النساء: 3] ويدل عليه قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} [التوبة: 28] ثم أطلق العائل على الفقير، وإن لم يكن له عيال، وههنا في تفسير العائل قولان:
الأول: وهو المشهور أن المراد هو الفقير، ويدل عليه ما روى أنه في مصحف عبد الله: {ووجدك عديماً} وقرئ {عيلاً} كما قرئ {سيحات}.
ثم في كيفية الإغناء وجوه:
الأول: أن الله تعالى أغناه بتربية أبي طالب، ولما اختلت أحوال أبي طالب أغناه الله بمال خديجة، ولما اختل ذلك أغناه الله بمال أبي بكر، ولما اختل ذلك أمره بالهجرة وأغناه بإعانة الأنصار، ثم أمره بالجهاد، وأغناه بالغنائم، وإن كان إنما حصل بعد نزول هذه السورة، لكن لما كان ذلك معلوم الوقوع كان كالواقع، روي أنه عليه السلام: «دخل على خديجة وهو مغموم، فقالت له مالك، فقال: الزمان زمان قحط فإن أنا بذلت المال ينفذ مالك فأستحي منك، وإن لم أبذل أخاف الله، فدعت قريشاً وفيهم الصديق، قال الصديق: فأخرجت دنانير وصبتها حتى بلغت مبلغاً لم يقع بصري على من كان جالساً قدامي لكثرة المال، ثم قالت: اشهدوا أن هذا المال ماله إن شاء فرقه، وإن شاء أمسكه».
الثاني: أغناه بأصحابه كانوا يعبدون الله سراً حتى قال عمر حين أسلم: أبرز أتعبد اللات جهراً ونعبد الله سراً! فقال عليه السلام: «حتى تكثر الأصحاب،» فقال حسبك الله وأنا فقال تعالى: {حَسْبُكَ الله وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين} [الأنفال: 64] فأغناه الله بمال أبي بكر، وبهيبة عمر. الثالث: أغناك بالقناعة فصرت بحال يستوي عندك الحجر والذهب، لا تجد في قلبك سوى ربك، فربك غني عن الأشياء لا بها، وأنت بقناعتك استغنيت عن الأشياء، وإن الغنى الأعلى الغنى عن الشيء لا به، ومن ذلك أنه عليه السلام خير بين الغنى والفقر، فاختار الفقر الرابع: كنت عائلا عن البراهين والحجج، فأنزل الله عليك القرآن، وعلمك مالم تكن تعلم فأغناك.
القول الثاني في تفسير العائل: أنت كنت كثير العيال وهم الأمة، فكفاك.
وقيل فأغناهم بك لأنهم فُقراء بسبب جهلهم، وأنت صاحب العلم، فهداهم على يدك.
وهاهنا سؤالات:
السؤال الأول:
ما الحكمة في أنه تعالى اختار له اليتم؟ قلنا فيه وجوه:
أحدها: أن يعرف قدر اليتامى فيقوم بحقهم وصلاح أمرهم، ومن ذلك كان يوسف عليه السلام لا يشبع.
فقيل له في ذلك: فقال أخاف أن أشبع فأنسى الجياع.
وثانيها: ليكون اليتيم مشاركاً له في الاسم فيكرم لأجل ذلك، ومن ذلك قال عليه السلام: «إذا سميتم الولد محمداً فأكرموه، ووسعوا له في المجلس»
وثالثها: أن من كان له أب أو أم كان اعتماده عليهما، فسلب عنه الولدان حتى لا يعتمد من أول صباه إلى آخر عمره على أحد سوى الله، فيصير في طفوليته متشبهاً بإبراهيم عليه السلام في قوله: حسبي من سؤالي، علمه بحالي، وكجواب مريم: {أنى لَكِ هذا قالتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله} [آل عمران: 37].
ورابعها: أن العادة جارية بأن اليتيم لا تخفى عيوبه بل تظهر، وربما زادوا على الموجود فاختار تعالى له اليتيم، ليتأمل كل أحد في أحواله، ثم لا يجدوا عليه عيباً فيتفقون على نزاهته، فإذا اختاره الله للرسالة لم يجدوا عليه مطعناً وخامسها: جعله يتيماً ليعلم كل أحد أن فضيلته من الله ابتداء لأن الذي له أب، فإن أباه يسعى في تعليمه وتأديبه وسادسها: أن اليتم والفقر نقص في حق الخلق، فلما صار محمد عليه الصلاة والسلام، مع هذين الوصفين أكرم الخلق، كان ذلك قلباً للعادة، فكان من جنس المعجزات.
السؤال الثاني:
ما الحكمة في أن الله ذكر هذه الأشياء؟
الجواب: الحكمة أن لا ينسى نفسه فيقع في العجب.
السؤال الثالث:
روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سألت ربي مسألة وددت أني لم أسألها، قلت: اتخذت إبراهيم خليلاً، وكلمت موسى تكليماً، وسخرت مع داود الجبال، وأعطيت سليمان كذا وكذا، وأعطيت فلاناً كذا وكذا، فقال: ألم أجدك يتيماً فآويتك؟ ألم أجدك ضالا فهديتك؟ ألم أجدك عائلا فأغنيتك؟
قلت: بلى.
فقال: ألم أشرح لك صدرك؟
قلت: بلى، قال: ألم أرفع لك ذكرك؟
قلت: بلى! قال: ألم أصرف عنك وزرك؟
قلت: بلى، ألم أوتك مالم أوت نبياً قبلك وهي خواتيم سورة البقرة؟ أم أتخذك خليلاً كما اتخذت إبراهيم خليلاً؟»
فهل يصح هذا الحديث.
قلنا: طعن القاضي في هذا الخبر فقال: إن الأنبياء عليهم السلام لا يسألون مثل ذلك إلا عن إذن، فكيف يصح أن يقع من الرسول مثل هذا السؤال.
ويكون منه تعالى ما يجري مجرى المعاتبة.
{فَأَمَّا اليتيم فَلَا تقهر (9)}
وقرئ {فلا تكهر}، أي لا تعبس وجهك إليه، والمعنى عامله بمثل ما عاملتك به، ونظيره من وجه: {وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ} [القصص: 77] ومنه قوله عليه السلام: «الله الله فيمن ليس له إلا الله» وروي: أنها نزلت حين صاح النبي صلى الله عليه وسلم على ولد خديجة ومنه حديث موسى عليه السلام حين: «قال: إلهي بم نلت ما نلت؟ قال: أتذكر حين هربت منك السخلة، فلما قدرت عليها قلت: أتعبت نفسك ثم حملتها، فلهذا السبب جعلتك وليا علي الخلق»، فلما نال موسى عليه السلام النبوة بالإحسان إلى الشاة فكيف بالإحسان إلى اليتيم، وإذا كان هذا العتاب بمجرد الصياح أو العبوسية في الوجه، فكيف إذا أذله أو أكل ماله، عن أنس عن النبي عليه الصلاة والسلام: «إذا بكى اليتيم وقعت دموعه في كف الرحمن، ويقول تعالى: من أبكى هذا اليتيم الذي واريت والده التراب، من أسكته فله الجنة».
{وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تنهر (10)}
يقال: نهره وانتهره إذا استقبله بكلام يزجره، وفي المراد من السائل قولان:
أحدهما: وهو اختيار الحسن أن المراد منه من يسأل العلم ونظيره من وجه: {عَبَسَ وتولى أَن جَاءهُ الأعمى} [عبس: 1، 2] وحينئذ يحصل الترتيب، لأنه تعالى قال له أولاً: {أَلَمْ يَجِدْكَ يتيماً فآوى وَوَجَدَكَ ضالا فهدى وَوَجَدَكَ عائلا فأغنى} [الضحى: 6- 8] ثم اعتبر هذا الترتيب، فأوصاه برعاية حق اليتيم، ثم برعاية حق من يسأله عن العلم والهداية، ثم أوصاه بشكر نعم الله عليه والقول.
الثاني: أن المراد مطلق السائل ولقد عاتب الله رسوله في القرآن في شأن الفُقراء في ثلاثة مواضع أحدها: أنه كان جالساً وحوله صناديد قريش، إذ جاء ابن أم مكتوم الضرير، فتخطى رقاب الناس حتى جلس بين يديه، وقال: علمني مما علمك الله، فشق ذلك عليه فعبس وجهه فنزل {عَبَسَ وتولى} [عبس: 1].
والثاني: حين قالت له قريش: لو جعلت لنا مجلساً وللفُقراء مجلساً آخر فهم أن يفعل ذلك فنزل قوله: {واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم} [الكهف: 28] والثالث: كان جالساً فجاءه عثمان بعذق من ثمر فوضعه بين يديه فأراد أن يأكل فوقف سائل بالباب، فقال: رحم الله عبداً يرحمنا، فأمر بدفعه إلى السائل فكره عثمان ذلك، وأراد أن يأكله النبي عليه السلام فخرج واشتراه من السائل، ثم رجع السائل ففعل ذلك ثلاث مرات، وكان يعطيه النبي عليه السلام إلى أن قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أسائل أنت أم بائع؟» فنزل: {وَأَمَّا السائل فَلاَ تنهر}.
{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فحدث (11)}
وفيه وجوه:
أحدها: قال مجاهد: تلك النعمة هي القرآن، فإن القرآن أعظم ما أنعم الله به على محمد عليه السلام، والتحديث به أن يقرأه ويقرئ غيره ويبين حقائقه لهم.
وثانيها: روي أيضاً عن مجاهد: أن تلك النعمة هي النبوة، أي بلغ ما أنزل إليك من ربك.
وثالثها: إذا وفقك الله فراعيت حق اليتيم والسائل، وذلك التوفيق نعمة من الله عليك فحدث بها ليقتدي بك غيرك، ومنه ما روي عن الحسين بن علي عليه السلام أنه قال: إذا عملت خيراً فحدث إخوانك ليقتدوا بك، إلا أن هذا إنما يحسن إذا لم يتضمن رياء، وظن أن غيره يقتدي به، ومن ذلك لما سئل أمير المؤمنين على عليه السلام عن الصحابة فأثنى عليهم وذكر خصالهم، فقالوا له: فحدثنا عن نفسك فقال: مهلاً، فقد نهى الله عن التزكية فقيل له: أليس الله تعالى يقول: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فحدث} فقال: فإني أحدث، كنت إذا سئلت أعطيت وإذا سكت ابتديت، وبين الجوانح علم جم فاسألوني.
فإن قيل: فما الحكمة في أن أخر الله تعالى حق نفسه عن حق اليتيم والعائل؟.
قلنا: فيه وجوه:
أحدها: كأنه يقول أنا غني وهما محتاجان وتقديم حق المحتاج أولى.
وثانيها: أنه وضع في حظهما الفعل ورضي لنفسه بالقول.
وثالثها: أن المقصود من جميع الطاعات استغراق القلب في ذكر الله تعالى، فجعل خاتمة هذه الطاعات تحدث القلب واللسان بنعم الله تعالى حتى تكون ختم الطاعات على ذكر الله، واختار قوله: {فحدث} على قوله فخبر، ليكون ذلك حديثاً عنده لا ينساه، ويعيده مرة بعد أخرى، والله أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. اهـ.